حوار | ترميم العلاقات الأسرية والتكافل الاجتماعي في ظل جائحة كورونا

د. نهاد علي: من المهم أن نزرع في أنفسنا وأبنائنا بأننا لسنا في سجن، ورب ضارة نافعة، ومن المهم جدا أن نزرع الأمل والتفاؤل والفرح وقراءة الكتب ومناقشتها بالعائلة ومشاهدة الأفلام المعبرة والمسرحيات الضاحكة والتعالي على الصغائر ودب الروح الإيجابية.

حوار | ترميم العلاقات الأسرية والتكافل الاجتماعي في ظل جائحة كورونا

أمسية رمضانية بقرية الغابسية المهجرة العام الماضي (أرشيف عرب 48)

في ظل اتساع دائرة انتشار فيروس كورونا المستجد وتداعياته الخطيرة على مختلف جوانب حياة الناس، السلوكية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية، ينشغل الكثير من الاختصاصيين في تحليل واستشراف ما يمكن أن تؤول إليه الأمور، ليطرح السؤال حول العلاقات الأسرية والتكافل الاجتماعي وسُبل ترميمها.

وحول الآثار الاجتماعية لجائحة كورونا، حاور "عرب 48" في هذا اللقاء، أستاذ علم الاجتماع والمستشار الأكاديمي، د. نهاد علي.

"عرب 48": لا شك أن المجتمع العربي في ظل العولمة شهد في العقدين الأخيرين انقلابا عميقا وتراجعا حادا على مستوى العلاقات الاجتماعية والإنسانية والتكافل الاجتماعي، وبالمقابل تعزيز الفردانية الأمر الذي طال أواصر العلاقات الأسرية أيضا، هل لك أن تستعرض لنا أهم العوامل والأسباب الموضوعية والذاتية لهذا التحول العميق؟

د. نهاد علي

علي: لا شك أن المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني يمر بسيرورات وصيرورات كثيرة، وقد لامست هذه التغييرات كل قطاع من قطاعات الحياة، ولكن بطرق متفاوتة. بعض التغييرات هي تغييرات عميقة وبعضها أقل عمق، ولكن الحالة المؤكدة أن هذا المجتمع انتقل من حالة المجتمع التقليدي إلى المجتمع المتمدن. عملية الانتقال هذه لم تكن سلسة بالمرة وقد تعثرت هذه الصيرورة نتيجة لعدة أسباب بعضها بنيوية وأخرى ثقافية واجتماعية وسياسية، والنتيجة أن هذا المجتمع يوصف بأنه مجتمع انتقالي يحمل في طياته مركبات من المجتمع التقليدي ومركبات أخرى من المجتمع المتمدن، ومن خلال هذه السيرورة مر هذا المجتمع بعملية تمدن قسرية ومشوهة أدت إلى إرهاصات عديدة. وفي هذا السياق، يستدل من الأبحاث أن أحد أهم المركبات التي تأثرت بهذه السيرورة والصيرورة هي العائلة العربية، كحمولة وكعائلة موسعة وكعائلة نواتية، فالمبنى البطركي الهرمي تغير إلى حد كبير وألقى بظلاله على مكانة كبير السن وعلى مكانة الأب ومكانة الأم ومكانة الابن. وهذا التغيير لم يؤثر على المركز والمكانة والأدوار لكل منهم بل أدى إلى انحسار دور الحمولة والعائلة، بقيمها وبأدوارها الاجتماعية، وهنا تعزز دور العائلة النواتية على حساب الحمولة وبنت العائلة النواتية بدائل عصرانية للحمولة ما أثر على التكافل الاجتماعي، إضافة لذلك وكما هو عليه في المجتمعات الغربية تعززت الفردانية وتحولت إلى طرف مسيطر في مجتمع مبناه وآلياته ومرجعيته شرقية، وبذلك عانت العائلة العربية في الداخل الفلسطيني من أسرية تميزت بالتباعد وإشكالات بالانسجام وضعف بالسيطرة، وأحيانا ضياع البوصلة.

"عرب 48": يرى البعض أن ثقافة الاستهلاك لدى المجتمع العربي شوهت الكثير من القيم، وأتت على حساب التراحم والتكافل الاجتماعي الذي يعطي للحياة قيمة ومعنى، هل هذا الأمر صحيح، وكيف يمكن توفير حالة من التوازن بين القيم الإنسانية والحياة المادية؟

علي: إن إسقاطات العولمة العصرنة والتمدن ألقت بظلالها على كافة المجتمعات، ولكن بدرجات متفاوتة، وكان لهذه العمليات ضحايا. والضحايا المرشحة والمرجحة هي المجتمعات الهشة، ضعيفة الهوية ومسلوبة الإرادة، والمقلدة بشكل أعمى. نرى هذا جليا في سلوكيات وتصرفات مجتمعنا الفلسطيني في الداخل، إذ استعار هذا المجتمع باقة قيمية بعيدة عن انتمائه وقيمه وهويته الاجتماعية والثقافية، وأدخل إلى منظومته القيمية الغث والسمين، وطبعا لا ننكر أن بعض القيم المستعارة كانت إيجابية، ولكن تأثير السلبية أكثر وأقوى. ويمكن تعريف المجتمع العربي على أنه مجتمع ما بعد الاستهلاكي بمعنى أن القيم المادية طغت عليه، إذ كان لها سطوة قوية وألقت بظلالها على القيم الروحانية، وثقافة الاستعراض "شوفوني يا ناس" أصبحت مرجعية، وضربت بذلك الكثير من التوازنات والكوابح والضوابط الاجتماعية، وترنح سلم الأفضليات. وبما أن ثقافة الاستهلاك والاستعراض هي سيدة الموقف، فقد أنتجت مجموعة قيمية مادية ترى ضخامة البيت وشركة السيارة وماركة الشباب والمظهر الخارجي المزركش والسفريات خارج البلاد والمطاعم "سلفي بالمطعم" والمقتنيات الشكلية بدل ثقافة التواضع، التراحم، التكافل، العطاء، التوازن. وحول هل يمكن بناء توازن أفضل بين المادي والروحاني؟ أقول إنه في ظل هذا التوصيف وبناء على الحالة الخاصة لمجتمعنا كمجتمع مسلوب الإرادة، علينا إجراء قراءة عريضة وعميقة لما آل إليه الوضع. هذه القراءة يجب قبل كل شيء أن تقودنا إلى أخذ زمام الأمور بأيدينا. علينا البدء بعملية التغيير في سلم الأفضليات والتوازن، بمعنى أن نبدأ في التربية والتعليم، ويجب أن نعاود غرس القيم الأصيلة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدينية وتنمية التنافس البناء وليس التنافس الاستعراضي بدءا من بيوتنا. علينا مسؤولية أخلاقية تجاه أبنائنا وأن نكون وكلاء التهيئة الأساسيين وألا نترك مهمة تربيتهم عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل التواصل التقليدية، وأن نحصنهم بثوابت اجتماعية وثقافية وقومية، كما أن مسؤولية كبيرة علينا في ذلك إذ يجب استغلال حصص التربية، واستغلال منظومة بالتعليم اللا منهجي لبث روح العطاء والتكافل الاجتماعي، وعلى معلمينا التأكد من غرس وتذويت هذه القيم وليس فقط نقلها بدون استيعاب، بالإضافة لذلك علينا بناء قيادة اجتماعية وثقافية وألا نكتفي بالقيادة السياسية، فالسياسي يخاف التغيير ويهرب من المواجهة لخوفه من خسارة القوة وخسارة المصوتين، وبالنهاية علينا تعزيز المجتمع الذي بمؤسساته وجمعياته وقياداته الشابة معززة بثقافة العطاء والتكافل الاجتماعي.

"عرب 48": هل ترى أن أزمة كورونا، بتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، قد تشكل فرصة مواتية لترميم السلوك والمفاهيم، وبالتالي العلاقات داخل الأسرة والمجتمع، أم أن التغيير قد يكون عكسيا، وهل نحن بصدد فرصة تاريخية من اجل إحداث ذلك؟

علي: لقد عصفت جائحة كورونا بمجتمعنا وضربت به دون رحمة، خاصة وأن مجتمعنا غير جاهز وغير مجهز لمواجهة أزمات ثقيلة الوزن. لهذه الجائحة عدة جوانب، بتأثيرها الاجتماعي، وخاصة على العائلة، فحالة الحجر جمعتنا في بيوتنا، وقللت من حركتنا، وجمعتنا بأهلنا ونقلتنا إلى الحيز الخاص، ولكنها في هذا الوقت أبعدتنا عن عائلاتنا الموسعة وعن أصدقائنا وزملائنا في العمل ومناسباتنا الاجتماعية وغيرها. إنها فرصة للتفكير المعمق حول إعادة حوسبة المسار، وفرصة للعائلات المعيارية ميسورة الحال المتعلمة الواعية من أجل تقوية أواصر العلاقات الاجتماعية وتعويض الأزواج والأبناء على ما فات من ضياع ببناء رأس مالنا الاجتماعي والثقافي والأخلاقي، والاستثمار في الوقت. هذه العائلات قد تستفيد من تداعيات الكورونا، ولكن هناك مجموعة أخرى قد تدمرها هذه الجائحة، وأخص بالذكر العائلات الفقيرة والعائلات المعنفة والعائلات التي تسير أمورها الحياتية بقوة الدفع. هذه العائلات قد يزداد فيها العنف والجنوح والفرقة والعدائية، وقد ترتفع عندها حالات الطلاق بسبب التواجد مع بعضها البعض، وحالات الفراغ الاجتماعي قد تكون هدامة.

"عرب 48": لو أردت أن تسدي الإرشاد والنصائح التي قد تسهم في استعادة شيئا من هذه العلاقات والسلوكيات بين الناس، ماذا تقول لهم؟

علي: من المهم أن نزرع في أنفسنا وأبنائنا بأننا لسنا في سجن، ورب ضارة نافعة، ومن المهم جدا أن نزرع الأمل والتفاؤل والفرح وقراءة الكتب ومناقشتها داخل العائلة ومشاهدة الأفلام المعبرة والمسرحيات الضاحكة والتعالي على الصغائر ودب الروح الإيجابية، وهي وسائل تساعد على استقرار العائلة ومحاولة القراءة من جديد لشركائنا وأبنائنا، والتركيز على الإيجابي في شخصياتهم، وعدم التفكير في أزمات عصفت بنا قبل الكورونا. هذا قد يساعد ويجعل من البيت قلعة وانتماء وهوية أسرية، والكثير الكثير من الاحترام المتبادل.

التعليقات